تحليل شامل لمستقبل البلاد
بقلم: دكتور عبدالناصر سلم حامد
كبير الباحثين مدير برنامج شرق افريقيا والسودان في فوكس
مع اقتراب الحرب في السودان من نهايتها، تبرز تحديات سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية معقدة تتطلب رؤية واضحة واستراتيجيات شاملة لضمان إعادة بناء الدولة ومنع تكرار الأزمات. لقد كشفت هذه الحرب عن هشاشة مؤسسات الدولة وأظهرت عجز القوى السياسية عن إدارة الأزمات، مما أدى إلى تفاقم الصراع وتعميق الانقسامات. ومع ذلك، فقد وحدت الحرب وجدان السودانيين حول ضرورة بناء دولة حديثة قادرة على تحقيق الاستقرار والتنمية.
المشهد السياسي ومستقبل الحكم في السودان
الاستقرار السياسي هو الأساس لأي نهضة مستقبلية، ولا يمكن تحقيق ذلك دون إعادة هيكلة النظام السياسي لضمان تمثيل عادل وشامل لمختلف المكونات الاجتماعية والعرقية. أثبتت الحرب أن القوى السياسية التقليدية فقدت تأثيرها بسبب غيابها عن المشهد الفعلي، في حين برزت قوى جديدة، بعضها ذات طابع مسلح، كفاعل رئيسي في تحديد مستقبل السودان. لذلك، فإن إعادة ترتيب المشهد السياسي عبر حوار وطني شامل يضم جميع الأطراف دون إقصاء، هو الخطوة الأولى نحو بناء نظام حكم مستقر وديمقراطي.
لا بد من وضع دستور جديد يعكس تطلعات الشعب السوداني ويؤسس لنظام سياسي قادر على إدارة التنوع العرقي والثقافي، مع ضمان استقلالية القضاء وحياد مؤسسات الدولة. كما يجب تعزيز الحكم الفيدرالي لضمان عدالة تنموية بين الأقاليم والمركز، ووضع سياسات تحدّ من احتمالية العودة إلى النزاعات عبر مأسسة عملية التداول السلمي للسلطة. في هذا الإطار، يرى خبراء سياسيون من معاهد دولية مثل مركز كارنيغي للسلام الدولي أن أي عملية انتقال ديمقراطي ناجحة في السودان يجب أن تعتمد على مشاركة واسعة من القوى المدنية والعسكرية، مع وجود ضمانات دستورية تحول دون الانزلاق مجددًا نحو الحكم العسكري.
دور القوات المسلحة في حماية الديمقراطية
تعد القوات المسلحة السودانية المؤسسة الأهم في ضمان استقرار البلاد، ويجب أن تكون الراعي الأساسي لأي تحول ديمقراطي حقيقي. من الضروري أن تحافظ القوات المسلحة على حياديتها، وأن تعمل على حماية الدستور بدلاً من التدخل في الحياة السياسية. يتطلب ذلك إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية بحيث تصبح مؤسسة وطنية قومية بعيدة عن الانتماءات السياسية أو القبلية، وهو ما يؤكده معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) في توصياته بشأن إدارة الانتقال السياسي في الدول الخارجة من النزاعات.
التحديات الأمنية وإعادة بناء المؤسسات العسكرية
تمثل الأزمة الأمنية أكبر العقبات أمام استعادة الاستقرار. انتشار السلاح خارج سيطرة الدولة ووجود مليشيات مسلحة يهدد أي جهود للسلام. لذلك، ينبغي تنفيذ خطة شاملة لنزع السلاح، تشمل إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية، وضمان احتكار الدولة للقوة المسلحة. يجب أن تركز هذه الخطة على تعزيز العقيدة العسكرية للقوات المسلحة بحيث تصبح مؤسسة قومية بعيدة عن الانتماءات السياسية أو القبلية، إلى جانب إصلاح الأجهزة الشرطية والأمنية لضمان سيادة القانون.
ختامًا
يمتلك السودان كل المقومات ليصبح دولة مستقرة ومزدهرة، لكن تحقيق ذلك يتطلب إرادة سياسية قوية، وإصلاحات جوهرية تعالج جذور الأزمة، مع ضرورة إشراك كافة مكونات المجتمع في عملية إعادة البناء. نجاح السودان في هذه المرحلة المفصلية سيحدد مستقبله لسنوات قادمة، وسيكون اختبارًا حقيقيًا لقدرته على تجاوز الأزمات، والتحول إلى نموذج ديمقراطي ناجح في المنطقة.
بحسب ما أشار إليه معهد بروكينغز في أحدث تقاريره، فإن نجاح الانتقال الديمقراطي في السودان يعتمد بشكل كبير على تنفيذ إصلاحات أمنية واقتصادية متوازنة، تضمن دمج الفصائل المسلحة تحت مظلة الدولة، وإعادة هيكلة الاقتصاد بشكل يمنع تركز الثروة في يد فئات محددة. كما يرى محللون في المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) أن السودان لديه فرصة تاريخية ليصبح نموذجًا في التحول السياسي السلمي، إذا ما تم تحقيق مصالحة وطنية حقيقية، تعترف بحقوق جميع الأطراف، وتضمن عدم تكرار أخطاء الماضي.
من جانبه، يؤكد ريتشارد داونز، الباحث في مركز الدراسات الإفريقية بجامعة هارفارد، أن السودان بحاجة إلى عملية مصالحة شاملة تتجاوز الحسابات السياسية الضيقة، وتعمل على إعادة بناء الهوية الوطنية بطريقة تستوعب الجميع. كما يذهب فرانسيس فوكوياما، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ستانفورد، إلى أن السودان يمثل حالة اختبار لقدرة المجتمعات الخارجة من النزاعات على بناء دولة ديمقراطية مستقرة، محذرًا من أن الفشل في تحقيق إصلاح سياسي واقتصادي حقيقي قد يعيد البلاد إلى دائرة العنف وعدم الاستقرار.
أما الخبير الاقتصادي جوزيف ستيغليتز، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، فيرى أن التعافي الاقتصادي في السودان يتطلب إصلاحًا هيكليًا عميقًا يشمل إعادة توزيع الثروة، وتحفيز الاستثمار في القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والتعدين، إلى جانب وضع سياسات مالية تضمن الاستقرار النقدي والحد من التضخم.
مستقبل السودان بعد الحرب يرتكز على إعادة صياغة الدولة السودانية، وإصلاح الوضع الأمني، وإعادة البناء، وهو ما يتطلب تنسيقًا محكمًا بين المؤسسات الوطنية والمجتمع الدولي لضمان تحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة، وتعزيز سيادة القانون، وتنفيذ إصلاحات اقتصادية تعيد التوازن للبلاد. الأهم من ذلك، أن المرحلة القادمة تحتاج إلى قيادة حكيمة تمتلك رؤية واضحة للانتقال السياسي، وتضع مصلحة السودان فوق أي اعتبارات أخرى لضمان مستقبل أكثر استقرارًا وعدالة
التعليقات لا توجد تعليقات
لا توجد تعليقات
إضافة تعليق