كتبت :منة رضا كريم

فيلم رقيق أبكى الجمهور وعذب القلوب طوال ساعة ونصف، حيث تم عرضه في مهرجان القاهرة السينمائي في افتتاح دورته الثانية والأربعين.

هذا الفيلم الذي كان موضع حديث الناس في اليومين الماضيين، وهو “الأب” للكاتب والمخرج الفرنسي فلوريان زيلر، ولعب بطولته البريطاني العملاق أنتوني هوبكنز في واحد من أعظم أدواره على الشاشة، وسيكون أحد أقوى المرشحين لنيل جائزة “أوسكار” أفضل ممثل في الطبعة القادمة لتكون ثاني واحدة يفوز بها في حال حصل ذلك.

في القاهرة، كان أول عرض شرق أوسطي لـ”الأب”، بعد عرضه في مطلع هذا العام بمهرجان صاندانس، ثم في تورونتو. جولة انتهت بفوزه أخيراً بجائزة الجمهور في مهرجان سان سيباستيان.

يذكر أن هناك مسرحية كتبها زيلر، وعرضت للمرة الأولى في أيلول من عام 2012، وهي جزء من ثلاثية تضم أيضاً “الأم” و”الابن”.

كان زيلر وقتها في الثالثة والثلاثين فقط، وخلفه ست مسرحيات، استمر عرض المسرحية على مدى سنتين، وفاز بالعديد من جوائز الـ”موليير” (الخاصة بالمسرح)، بما فيها جائزة أفضل مسرحية في عام 2014. ولنجاح العروض في فرنسا سافرت إلى جميع أنحاء العالم.
وكتبت جريدة “غارديان” تقول إنها “المسرحية التي فازت بالقدر الأكبر من المديح بالعقد الماضي”، في حين اعتبرتها الـ”تايمز” واحدة من أكثر المسرحيات قيمة في العقد نفسه.

كل هذا أمدّ زيلر بفكرة أفلمة نصه المسرحي هذا ونقله إلى الشاشة، فاستعان بكاتب سيناريو له باع طويل، ليس سوى كريستوفر هامبتون، البريطاني الذي خلف الكثير من التحف السينمائية (تم تكريمه في القاهرة بجائزة عن مجمل أعماله)، مثل “علاقات خطرة” لستيفن فريرز الذي فاز عنه بـ”أوسكار” أفضل سيناريو، وله أيضاً عديد من الروائع مثل “أتونمنت” لجو رايت، كما أنه اشتغل مع ديفيد لين على مشروع اقتباس العمل الأدبي المشهور “نوسترومو” لجوزف كونراد الذي لم يتحقق في النهاية. مع كل هذه المواهب خلف الفيلم، بدايةً من كاتب مسرحي شاب طموح قفز من الخشبة إلى الشاشة، وصولاً إلى واحد من أهم كتاب السيناريو في العالم، فمروراً بأنتوني هوبكنز الذي وقفت إلى جانبه في التمثيل الرائعة أوليفيا كولمان، كان من الصعب أن يطيش السهم. في حديث جمعني بهامبتون في القاهرة خلال تكريمه، أخبرني عن الظروف التي أوصلته إلى العمل على هذا الفيلم، وكيف سافر إلى لوس أنجلوس برفقة زيلر لعرض الدور على هوبكنز الذي وافق على أداء الشخصية فوراً، علماً بأنه لم يكن قد شاهد المسرحية.

اما عن فكرة الشخصية فإن إسناد دور “أندره” (اسم الشخصية في المسرحية) إلى هوبكنز كان الفكرة الأساسية التي قام عليها “الأب”؛ فهو يحمل النص على كتفيه، ويعطيه شكلاً سينمائياً خالصاً بعيداً من المسرح، ويفكك دواخل النفس البشرية. ويضيف على “الكاريكاتير” طبقات من خبرته التمثيلية الطويلة. وهناك احتمال كبير أن تبقى الشخصية ملتصقة به فترة طويلة، ولن يكون من السهل محوها من الذاكرة.

وفي الفيلم، تحول اسم “أندره” إلى أنتوني، للمزيد من ردم الهوة بين الممثل والشخصية. أنتوني هذا أب في الثمانينيات يصبح واضحاً منذ مشهد الافتتاحية بأنه يعاني اضطراباً وفقداناً تدريجياً للذاكرة، ويروح هذا الإحساس ليزيد لقطة بعد لقطة. فالأماكن والذكريات تتداخل ليضع هذا كله الرجل في حيرة من أمره. حيرة تنتقل تدريجاً إلى المشاهد، فيبدأ الأخير يتساءل إذا ما كان يراه حقيقياً أو خيالاً،  هل ما نراه هو وجهة نظر موضوعية أو هو ما يتخيله أنتوني؟ الفيلم لا يسمي المرض الذي يعانيه لا بـ”ألزهايمر”، ولا بغيره، تاركاً هذه المساحة في بعض الغموض والشك؛ ذلك أن المرض ليس الشغل الشاغل للمخرج، ولا يمكن اعتباره في أي شكل من الأشكال فيلماً آخر عن الـ”ألزهايمر”.

الفترة التي يوثقها “الأب” فترة مفصلية حساسة، أي عندما تظهر عند أنتوني أولى علامات الإصابة بالمرض. إلى جانبه، الابنة (كولمان) آن التي تحبه، وتسعى لحمايته، وتوفر له نهاية حياة تحفظ له كرامته، لكن المرض يفعل فعلته، ويدخل أنتوني في نفق مظلم، ولن نتأخر نحن المشاهدين في أن ندخله معه، لنشهد على التدهور التدريجي والدراماتيكي لهذا الرجل، وعلى الفوضى الذي سيتسبب هذا كله في محيطه. ما يصوره الفيلم هو فقدان التواصل بينه وبين الناس الذين كانوا سابقاً من أقرب الناس إليه. إنه فقدان يسهم أيضاً في فتح الباب على علاقات جديدة وواقع مستجد تفرضه الظروف. يضعنا الفيلم أمام لحظة هذا التلاشي، حيث كل شيء يختفي شيئاً فشيئاً. كل الوعود بموعد أخير مع السعادة تغيب يوماً بعد يوم، ليصبح كل شيء بعيداً بالمفهومين المكاني والزماني.

داخل هذا الجو المليء بالاضطرابات التي ينقلها زيلر بلغة سينمائية مينيمالية تولي الاهتمام بالتفاصيل، تصبح العلة الأهم هي عدم قدرة أنتوني على تدبير أموره بنفسه من جهة، ورفضه الاعتراف بهذه الحقيقة من جهة أخرى. يعيش هذا الأب حالة من الإنكار، رافضاً أن تأتيه ابنته بفتاة تساعده. صحته النفسية التي تزداد تدهوراً ستزجه في حالة من الشك. كل شيء حوله سيصبح من وجهة نظره محلاً للريبة، ليفقد في النهاية كل علاقة بالواقع. الفيلم يصف بدقة شديدة الدخول في هذه المتاهة التي لن يكون الخروج منها مثل الدخول إليها. يحرص “الأب” على أن يترك أثراً مهماً لدى المشاهد.