تحن فطرتنا الإنسانیة للعیش زمن الأجداد، وترى فیھ جمالا كن نظنھ استجابة لحاجتنا إلى التواصل مع جذورنا، ولكننا بعدما عشنا وقائع حیاتنا المعاصرة وما تموج بھ من علوم تقنیة فائقة وسیاسات دولیة تقھر الشعوب، وتسلب أقواتھا وتدمر دولھا، وتعدم استقرارھا وتقضي على ثوابتھا الأخلاقیة والدینیة، وتوظف علومھا الحدیثة من وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام بكل أقسامھ في نشر الكذب والخدیعة والأوھام، أدركنا سر انجذابنا لزمن الأجداد حیث راحة البال والأمن والطمأنینة بفعل صدقھم وأمانتھم. عالمنا المعاصر بات یعایش الأكاذیب كما یأكل ویشرب ویتنفس، والغریب أنھ یصدقھا من كثرة إلحاح المیدیا علیھ كالسحر، فصار الكذب ھو الصدق!، والنتیجة كما انتشار القلق والخوف والأمراض النفسیة والعضویة وفقدان الثقة بین الناس، لأن الإنسان خالف فطرتھ السویة التي تستوجب قیمة الصدق في نفسھ، وفي التعامل مع الآخرین.

قد یبرر البعض اللجوء إلى الكذب رغم أنھ محرم أخلاقیا، وفي كل الأدیان السماویة والثقافات والحضارات عبر تضلیل الناس بمعلومات مغلوطة بكل صوره في البناء والتعلیم والصحة والتجارة والسیاسیة، بأن لھ الغلبة الظاھرة، وأنھ لا یمكن تحقیق المصالح بدون الالتفاف على الحق والصدق، فصار الزیف الذي ھو عملة العصر طریق أقصر لجلب المنافع، وھذا التبریر قادنا إلى نقص الخیرات في الأرض وانتشار الأوبئة والأمراض وھلاك الطبیعة، فأي منافع نحققھا بالكذب والغش؟!!!

الواقع أثبت أن الكذب أدى إلى خسارة الثقة والصداقة، والشك والحزن، وجعلنا نعیش في عالم من الوھم والخیال، وأبعدنا عن الواقع والحقیقة، وأضعف شخصیتنا وثقتنا بأنفسنا، لأن الكذب یقترن بارتكاب الجرائم مثل الغش والنصب والسرقة، كما یقترن ببعض المھن مثل الدبلوماسیة أو الحرب النفسیة الإعلامیة.

والكذب ھو من خصال المنافق، كما وصفھ النبي محمد صلى الله علیھ، وسلم “أربع من كن فیھ كان منافقًا خال ًصا، ومن كانت فیھ خلة منھم كانت فیھ خلة من النفاق حتى یدعھا: إذا حدث كذب، وإذا عاھد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر. ویقول رسول الله صلى الله علیھ وسلم: “علیكم بال  ِّصدق، فإ  َّن ال  ِّصدق یھدي إلى الب  ِّر. ، وإ  َّن الب  َّر یھدي إلى الجن َّة، وما یزال ال  َّرجل یصدق، ویتح  َّرى ال  ِّصدق حتى یكتب عند الله ص  ِّدیقًا. وإی َّاكم والكذب، فإ  َّن الكذب یھدي إلى الفُ ُجور، وإ  َّن الفُ ُجور یھدي إلى الن َّار، وما یزال ال  َّرجل یكذب، ویتح  َّرى الكذب حتى یُ ْكتَب عند الله ك  َّذابًا” صدق. رسول الله الكریم

ضرورة الصدق

من ھنا تصبح حاجتنا إلى استعادة الصدق في حیاتنا ضرورة كحاجتنا إلى الماء الھواء والطعام، لأن الصدق في حد ذاتھ باب تفتح بھ مغالیق أساسیة لسعادتنا وأماننا، حیث یتشعب منھ الصبر، والقناعة، والزھد، والرضا، والأنس والإخلاص والیقین، والخوف والمحبة. ولذلك یعد الصدق أحد أھم القیم الأخلاقیة التي یجب أن نتحلى بھا في حیاتنا، بوصفھ. مطابقة القول للفعل والوفاء بالعھود والوعود وما یجلبھ لنا الثقة والاحترام وإشعارنا بالسعادة والرضا وحمایتنا من المشاكل والندم، وتطویر شخصیتنا ومھاراتنا وحب الخیر للجمیع.

وفي واقعنا الیومي تموج وسائل التواصل الاجتماعي بأكاذیب سیاسیة ودینیة واجتماعیة تفرق الأمم، وتفت في عضد الدول، وتھدم الأسر وتھدم اقتصادیات الدول، وتروج لأدیان فاسدة، وقلما أن تجد كلمة حق صادقة من كثرة الأباطیل الكاذبة التي تنشر على وسائل التواصل الاجتماعي، والنتیجة أن المجتمع الإنساني فقد بوصلة الأمان الاجتماعي والنفسي والسكینة الطمأنینة، وصار تائھا في بحار من الضمات.

ویظل الصدق ھو سفینة النجاة التي تنجي البشریة من الغرق الذي نعیشھ في عالمنا المعاصر – خاصة وأن الصدق من صفات الله-عزوجل-كماقالفيمحكمكتابھقال-سبحانھ-وتعالى:قُْل َصَد َق  َّاللهُ. َوَمْنأَ ْصَد ُق ِمَن  َّاللهِقِیًلا. َوَمْنأَ ْصَد ُق ِمَن  َّاللهِ َحِدیثًا. والصدقمنصفاتالأنبیاءوالرسلكمافيالقرآنالكریم:َواْذُكْرفِياْلِكتَاِبإِْبَراِھیَمإِن َّھَُكاَنِص ِّدیقًانَبِیًّا»مریم41«.

َََََْ ُُْْ َََّْْ ًًََُُّْْ َََََْْْْ فل  َّما اعتزلھُ ْم َو َما یَعبُدو َن ِمن دو ِن اللهِ، َوھَبنا لھُ إِس َحا َق َویَعقو َب َوكلا َج َعلنا نبِیّا * َو َوھَبنا لھُ ْم ِمن َرح َمتِنا، َو َج َعلنا لھُ ْم لِ َسا َن

ِص ْد ٍق َعلِیًّا »مریم 49، 50«. َواْذُكْرفِياْلِكتَاِبإِْسَماِعیَلإِن َّھَُكاَن َصاِدَقاْلَوْعِد،َوَكاَنَرُسوًلانَبِیًّا»مریم54«. إدریس:َواْذُكْرفِياْلِكتَاِبإِْدِریَسإِن َّھَُكاَنِص ِّدیقًانَبِیًّا،َوَرفَْعنَاهَُمَكانًاَعلِیًّا»مریم56«. یُو ُس ُف أَی ُّھَا ال  ِّص  ِّدی ُق أَ ْفتِنَا فِي َس ْب ِع بَقَ َرا ٍت ِس َما ٍن »یوسف 46«. أما نبینا المصطفى محمد صلى الله علیھ وسلم، فكان أصدق الناس علما وعملا قبل بعثتھ بالرسالة ملقبا بال ّصادق الأمین، وبعد تحققھ بالوحي السماوي أطلق علیھ أصحابھ »ال ّصادق المصدوق«،. أما رب العزة، فقد نزه المصطفى عن الغوایة، وھوى النفس كما في قولھ تعالى: َما َض  َّل َصا ِحبُ ُك ْم، َو َما َغ َوى * َو َما یَ ْن ِط ُق َع ِن اْلھََوى*إِْنھَُوإِ َّلاَوْحٌيیُوَحى»النجم2-4«.  َّ ْ ُ ْ  َُّ والصدق من صفات المتقین كما أخبر الله في كتابھ: َوال ِذي جا َء بِال  ِّصد ِق، َو َص  َّد َق بِ ِھ أولئِ َك ھُ ُم ال ُمتقو َن »الزمر 33«.

تعدد مجالات الصدق؛

بدءا بالصدق مع الخالق جل جلالھ مصداقا لقولھ تعالى: َوال َِّذیَنآَمنُوابِا َّöَِوُرُسلِِھأُولَئَِكھُُمال ِّص ِّدیقُوَن. والصدق في النیات بحیث ینطبق ظاھر الإنسان مع باطنھ وصدق في النیة بالعمل. والصدق في الأقوال، فلا ینطق لسانھ إلا بصدق وقول الحق الصدق في القول یستوجب على الإنسان أن یحفظ لسانھ فلا یتكلم إلابصدق،ولاینطقإلابحق،ولذلكقالالحكماء،أحسنالكلامماصدقفیھقائلھُ،وانتفعبِھسامعھُ،وإّنالموتمعال ّصدق خی ٌر من المو ِت مع الكذب. إن البشریة كلھا باتت في أشد الحاجة إلى استعادة توازنھا النفسي والشعور بالأمان الداخلي والطمأنینة، وھذا ألا یتحقق بمعزل ھجر الكذب والعودة إلى الصدق، فعلى كل تاجر أن یتحرى الصدق في ترویج سلعتھ، ویتوقف فورا عن الحلف كذبا، وعلى أصحاب الحرف والمھن أن یتحروا الصدق في المواد التي یستخدمونھا، وفي مواد الصناعة والبناء، وعلى الموظفین تحري الصدق في مواعید عملھم وقضاء مصالح الناس وفق معطیات وظائفھم، وعلى الساسة وأصحاب المناصب العلیا أن یتحروا الصدق فیما یعلنونھ وما یتخذونھ من قرارات في صمیم حیاة الناس الیومیة. أما أصحاب العلم والفكر والإعلام ورجال الدین وغیرھم من الفئات التي تشكل وعي الناس فھم الأجدر على تبني الصدق قولا وفعلا؛ لأنھم ھم الذین یشكلون ذائقة الصدق والإخلاص فیما یقدمونھ للناس، فیجب ألا یقدموا لھم سوى كل ما ھو صادق ومخلص، حتى لا تسمم عقولھم وأفكارھم وجوارحھم بالزیف والغش.

وللإعلام الصادق دور رئیسي في كشف الزیف ونشر الوعي بالصدق ومحاربة الزور والبھتان واختلاق الأزمات بین الفرق الدینیة، وإلصاق التھم جزافا بالشرفاء تشویھا لسمعتھم. وھنا أیضا یبرز دور المجتمع نفسھ أن یحارب الكذب بعدم تصدیق الإشاعات التي تھدم الأوطان، وتدمر الكیانات الأسریة والاجتماعیة، فتمحیص وتدقیق الأنباء عملاً عقلیاً ومنطقیاً قبل أن نشرع بإصدار أحكامنا على الآخرین، أو نصدق عنھم إشاعات مغرضة قیلت بحقھم زوراً وبھتانا، مصداقا لقولھ تعالى: )یَاأَی ُّھَاال َِّذیَنآَمنُواإِْنَجاَءُكْمفَاِسٌقبنبأفَتَبَی َّنُواأَْنتُِصیبُواقَْوًمابَِجھَالٍَة،فَتُْصبُِحواَعلَىَمافََعْلتُْمنادمین.

الصدق وبناء الشخصیة. ولذلك یعد الصدق مفتاحاً رئیسیا في بناء شخصیة الإنسان وتطویر حیاتھ، حیث یقوده الصدق إلى تنفیذ الوعود والالتزامات الواجبة علیھ في تعلیمھ المستمر لتطویر عقلھ والتزود بالمھارات، وفي الوفاء بحقوق الأھل والجیرة وزملاء العمل وأداء حقوق العمل على الوجھ الأكمل، مما یشعر الآخرین بالثقة والأمان في التعامل معھ دونما غدر أو خذلان. كما أن الصدق یدفع صاحبھ إلى الاعتراف بالخطأ بعیدا عن الكبر والمعاندة وما یستتبعھ ذلك من تصحیح ھذه الأخطاء، فیظھر للآخرین مدى نزاھة ھذا الشخص الصادق؛ مما یخلق في نفوسھم الثقة بھ، وتتكامل عناصر الثقة النابعة من الصدق الداخلي للإنسان بسعیھ إلى مساعدة الآخرین في العمل والمنزل، مما یجعلھ مدعاة للاحترام والتقدیر. تنعكس أخلاق الصدق في النفس الإنسانیة، فتجعل صاحبھ أكثر صراحة ووضوحا، ولا یدعي لنفسھ ما لیس لھ من المعارف، ویعرف قدر نفسھ من المعرفة دون نقص أو مزایدة، فإذا سئل عن شيء یعرفھ في العمل، فیقر بمعرفتھ إن كان لا یعرفھ یقر بعدم معرفتھ احتراما لنفسھ وللآخرین، بل وقد یسعى لمعرفة ما ینقصھ من مھارات ضروریة في العمل إذا تطلب الأمر ذلك مما یجعلھ محلا لثقة الناس ومحبتھم.

یا أیھا الناس بكل بساطة كونوا صادقین وربوا أولادكم من الصغر على الوضوح فالوضوح ثقة بالنفس واعتزاز. وتحروا الصدق، ولا ترضون إلا بالحقیقة اخلعوا عنكم ھذه الوجوه لسنا في حفل تنكري أزیحوا الأقنعة وانظروا لأعین بعضكم البعض ابحثوا عن الصدق فالصدق نجاة.